فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقولُه تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبله من تخصيصِ الذِّكرى بأولي الألبابِ. وشرحُ الصَّدرِ للإسلامِ عبارةٌ عن تكميلِ الاستعدادِ له فإنه محلٌّ للقلبِ الذي هو منبعٌ للرُّوحِ التي تتعلَّقُ بها النَّفسُ القابلةُ للإسلامِ فانشراحُه مستدعٍ لاتِّساعِ القلبِ واستضاءتِه بنوره فإنَّه روي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: «إذا دخلَ النُّور القلبَ انشرحَ وانفسحَ» فقيل فما علامةُ ذلك؟ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والتَّجافي عن دارِ الغُرور والتَّأهُّبُ للموتِ قبل نزولِه» والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ كالذي مرَّ في قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} وخبرُ مَن محذوفٌ لدلالةِ ما بعده عليه والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فَمْن شَرحَ الله صدرَهُ أي خلقَهُ متَّسعَ الصَّدرِ مُستعدًَّا للإسلامِ فبقي على الفطرةِ الأصليةِ ولم يتغيرْ بالعوارضِ المكتسبةِ القادحةِ فيها {فَهُوَ} بموجبِ ذلك مستقرٌّ {على نُورٍ} عظيم {مّن رَّبّهِ} وهو اللُّطفُ الإلهيُّ الفائضُ عليه عند مشاهدةِ الآياتِ التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ والتَّوفيقُ للاهتداءِ بها إلى الحقِّ كمَنْ قسا قلبُه وحَرِجَ صدره بسببِ تبديلِ فطرةِ الله بسُوء اختيارِه واستولى عليه ظلماتُ العِيِّ والضِّلالةِ فأعرضَ عن تلك الآياتِ بالكُلِّيةِ حتَّى لا يتذكَّر بها ولا يغتنمُها {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} أي من أجلِ ذكرهِ الذي حقُّه أنْ تنشرحَ له الصُّدورُ وتطمئنَّ به القلوبُ أي إذا ذُكر الله تعالى عندهم أو آياتُه اشمأزُّوا من أجلِه وازدادتْ قلوبُهم قساوةً كقولِه تعالى {فزادْتُهم رجسًا}. وقُرئ {عن ذكرِ الله} أي عن قبولِه {أولئك} البُعداءُ الموصوفون بما ذُكر من قساوةِ القلوب {فِى ضلال} بُعدٍ عن الحقِّ {مُّبِينٌ} ظاهر كونه ضلالًا لكلِّ أحدٍ قيل: نزلتِ الآيةُ في حمزةَ وعليَ رضي الله عنهما وأبي لهبٍ وولدِه وقيل: في عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه وأبي جهلٍ وذويه.
{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} هو القرآنُ الكريمُ. رُوي أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ملُّوا ملَّةً فقالُوا له عليه الصَّلاةُ والسَّلام حدِّثْنا حَديثًا. وعن ابن مسعُودٍ وابن عبَّاسَ رضي الله عنُهم قالُوا: لو حدَّثتنا فنزلتْ. والمَعنى أنَّ فيه مندوحةً عن سائرِ الأحاديثِ. وفي إيقاعِ الاسمِ الجليلِ مبتدًا، وبناءِ نزَّل عليهِ من تفخيمِ أحسنِ الحديثِ ورفعِ محلَّه والاستشهادِ على حُسنِه وتأكيدِ استنادِه إليه تعالى وأنَّه من عندَه لا يمكنُ صدورُه عن غيرِه والتَّنبيهُ على أنَّه وحيٌ معجزٌ ما لا يخفى {كتابا} بدلٌ من أحسنَ الحديثِ أو حالٌ منه سواء اكتسبَ من المضافِ إليه تعريفًا أَوْ لاَ فإنَّ مساغَ مجيء الحالِ من النَّكرةِ والمُضافةِ اتفاقيٌّ ووقوعُه حالًا مع كونِه اسمًا لا صفةً إمَّا لاتَّصافِه بقولِه تعالى: {متشابها} أو لكونِه في قوَّة مكتوبًا ومعنى كونِه مُتشابهًا تشابُه معانيهِ في الصِّحَّةِ والأحكامِ والابتناءِ على الحقِّ والصِّدقِ واستنباع منافعِ الخلقِ في المعادِ والمعاشِ وتناسب ألفاظِه في الفصاحةِ وتجاوبِ نظمِه في الإعجازِ {مَّثَانِيَ} صفةٌ أخرى لكتابًا أوحالٌ أُخرى منه وهو جمعُ مَثنْى بمعنى مردودٍ ومكرَّرٍ لمَا ثُنِّي من قصصهِ وأنبائِه وأحكامِه وأوامرهِ ونواهيهِ ووعدِه ووعيدِه ومواعظِه. وقيل لأنَّه يُثنَّى في التَّلاوةِ، وقيل: هو جمعُ مَثنى مَفْعل من التَّثنيةِ بمعنى التَّكريرِ والإعادةِ كما في قولِه تعالى: {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرةً بعدَ كرَّةٍ. ووقوعُه صفةً لكتابًا باعتبار تفاصيلهِ كما يُقال القرآن سورٌ وآياتٌ ويجوزُ أنْ ينتصبَ على التَّمييزِ من مُتشابهًا كما يُقال رأيتُ رجلًا حسنًا شمائلَ أي شمائلُه والمعنى متشابهةٌ مثانية {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} قيل صفةٌ لكتابًا أو حالٌ منه لتخصُّصه بالصِّفةِ، والأظهر أنَّه استئنافٌ مسوق لبيانِ آثارِه الظَّاهرةِ في سامعيهِ بعد بيانِ أوصافهِ في نفسِه ولتقريرِ كونِه أحسنَ الحديثِ. والاقشعرارُ التَّقبضُ يقال اقشعرَّ الجلدُ إذا تقبَّضَ تقبُّضًا شَديدًا وتركيبُه من القَشع وهو الأديمُ اليابسُ قد ضُمَّ إليه الرَّاءُ ليكونَ رُباعيَّا ودَالًا على معنى زائد يُقال اقشعرَّ جلدُه وقفَ شعرُه إذا عرضَ له خوفٌ شديدٌ من منكرٍ هائلٍ دهمه بغتة. والمرادُ إمَّا بيانُ إفراطِ خشيتِهم بطريقِ التَّمثيلِ والتَّصويرِ أو بيانُ حصولِ تلك الحالةِ وعرُوضِها لهم بطريقِ التَّحقيقِ. والمعني أنَّهم إذا سمعُوا القُرآنَ وقوارعَ آياتِ وعيده أصابتُهم هيبةٌ وخشيةٌ تقشعرُّ منها جلودُهم وإذا ذُكِّروا رحمةَ الله تعالى تبدَّلتْ خشيتُهم رجاءً ورهبتُهم رغبةً وذلك قولُه تعالى.
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} أي ساكنةً مطمئنَّةً إلى ذكر رحمتِه تعالى وإنَّما لم يُصرِّحْ بها إيذانًا بأنَّها أولُ ما يخطرُ بالبال عند ذكرِه تعالى.
{ذلك} أي الكتابُ الذي شُرحَ أحوالُه {هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء} أنْ يهديه بصرفِ مقدورِه إلى الاهتداءِ بتأمُّلِه فيما في تضاعيفِه من شواهدِ الحقِّية ودلائلِ كونِه من عندِ الله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي يخلقُ فيه الضَّلالةَ بصرفِ قُدرته إلى مباديها وإعراضِه عمَّا يُرشده إلى الحقَّ بالكُلِّية وعدم تأثُّرِه بوعيدِه ووعدِه أصلًا أو ومن يخذلْ {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يُخلِّصه من ورطةِ الضَّلالِ وقيل: ذلك الذي ذُكرَ من الخشيةِ والرَّجاءِ إثر هُداه تعالى يهدي بذلكَ الأثرِ مَن يشاءُ من عبادةِ ومَن يُضللْ أي ومَن لم يُؤثِّر فيه لطفُه لقسوةِ قلبهِ وإصرارِه على فجورِه فما له من هادٍ من مؤثِّرٍ فيه بشيءٍ قَطْ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في لب:
لبَّ بالمكان وأَلَبَّ به إِذا أَقام به.
حكاه أَبو عبيد عن الخليل، ومنه قولهم: لَبَّيكَ.
أَى أَنا مقيم على طاعتك.
وقال ابن الأَنبارىّ: في لبَّيك أَربعة أَقوال:
أَحدها: إِجابتى لك من لبّ بالمكان وأَلبَّ به أَقام به.
وقالوا: لبَّيْك فثنَّوا لأَنهم أَرادوا: إِجابة بعد إِجابة؛ كما قالوا: حنانَيْك أي رحمة بعد رحمة.
وقال بعض النحويين: أَصل لبَّيْك لبَّبك، فاستثقلوا ثلاثة باءَات فأَبدلوا من الثالثة ياءً؛ كما قالوا: تظنَّيت وأَصله تظّننت.
والثانى: اتجاهى وقصدى يا رب لك؛ أُخذ من قولهم: دارى تَلُبّ دارك أي تواجهها.
والثالث: محبَّتى لك يا رب، من قول العرب: امرأَة لَبَّة إِذا كانت محبَّة لزوجها عاطفة عليه.
والرابع: إِخلاصى لك يا ربّ، من قولهم: حَسَبٌ لُبَاب: إِذا كان خالصًا محضًا، ومن ذلك لُبّ الطعام ولُبَابه.
واللُبّ: العقل، والجمع: أَلباب وأَلُبّ؛ كنُعْم وأَنْعُم قال:
قلبى إِليه مشرف الأَلُبِّ

وربما أَظهرو التضعيف في ضرورة الشعر كقول الكميت:
إِليكم ذوى آل النبى تطلَّعت ** نوازع من قلبى ظِماء وأَلبُبُ

وقيل، اللبّ: ما ذكا من العقل.
وكل لُبّ عقل، وليس كل عقل لُبًّا، ولهذا خص الله الأَحكام التي لا تدركها إِلاَّ العقول الذكيَّة بأُولى الأَلباب؛ نحو قوله: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ونحو ذلك من الآيات. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} أخبر أنه يُنْزِلُ من السماءِ المطرَ فيُخْرِجُ به الزرعَ فيخضرّ، ثم يأخذ في الجفاف، ثم يصير هشيمًا والإشاراةُ من هذا إلى الإنسان، يكون طفلًا ثم شابًا ثم كهلًا ثم شيخًا ثم يصير إلى أرذل العمر ثم في آخره يخترم.
ويقال إن الزَّرْعَ ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤْخَذُ منه الحَبُّ، فالحبُّ هو المقصود منه. كذلك الإنسان ما لم يحصلْ من نَفْسه وصولٌ لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ.
ويقال إن كَوْنَ المؤمنِ بقوة عقله يوجِبُ استفادةً له بعلمه إلى أَنْ يبدوَ منه كمالٌ يُمكِّنُ من أنوار بصيرته، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مغمورة. فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة، قالوا:
فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه ** بأَنواره أنوارَ تلك الكواكب

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} جوابُ هذا الخطابِ محذوفٌ أي أَفمن شرح اللَّهُ صَدْرَه للإسلام كمن ليس كذلك؟
لمَّا نزلت هذه الآيةُ سُئِلَ الرسولُ- صلى الله عيله وسلم- عن الشرح المذكور فيها، فقال: «ذلك نورٌ يُقْذَفُ في القلب» فقيل: وهل لذلك أَمارة؟ قال: «نعم؛ التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله» والنورُ الذي مِنْ قِبَلِهِ- سبحانه- نورُ اللّوائح بنجوم العلم، ثم نورُ اللوامع ببيان الفَهْم، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نورُ المكاشفة بتَجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد وعند ذلك فلا وَجْدَ ولا فقد، ولا قُرْب ولا بُعْدَ كلاّ بل هو الله الواحد القهار.
{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكِّرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ في ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} اي الصلبة قلوبهم، لم تقرعها خواطرُ التعريف فبقيت عَلَى نَكْرَةِ الجَحْد أُولئك في الضلالة الباقية، والجهالة الدائمة.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} لأنه غير مخلوق.
{كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} في الإعجاز والبلاغة.
{مَّثَانِىَ} يثني فيها الحكم ولا يُمَلُّ بتكرار القراءة، وَيشتمل عَلَى نوعين: الثناء عليه بذكر سلطانه وإحسانه، وصفات الجنة والنار والوعد والوعيد.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} إذا سمعوا آيات الوعيد.
{ثُمَّ تَلٍينَ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إذا سمعوا آيات الوعد.
ويقال: تقشعر وتلين بالخوف والرجاء، ويقال بالقبض والبسط، ويقال بالهيبة والأُنْس، ويقال بالتجلَّي والاستتار. اهـ.

.تفسير الآيات (24- 31):

قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتم الإنكار على من سوى، بين من شرح صدره ومن ضيق، وما تبعه وختم بأن الأول مهتد، والثاني ضال، شرع في بيان ما لكل منهما نشرًا مشوشًا في أسلوب الإنكار أيضًا، فقال مشيرًا إلى أن الضلال سبب العذاب، والهدى سبب النعيم، وحذف هنا المنعم الذي سبب له النعيم لين قلبه كما حذف القاسي القلب في آية الشرح الذي سببت له قسوته العذاب، لتتقابل الآيتان، وتتعادل العبارتان: {أفمن} وأفرد على لفظ {من} لئلا يظن أن الوجوه الأكابر فقال: {يتقي} ودل على أن يده التي جرت العادة بأنه يتقي بها المخاوف مغلولة بقوله: {بوجهه} الذي كان يقيه المخاوف ويحميه منها بجعله وهو أشرف أعضائه وقاية يقي به غيره من بدنه {سوء العذاب} أي شدته ومكروهه لأنه تابع نفسه على هواها حتى قسا قلبه وفسد لبه {يوم القيامة} لأنه يرمي به في النار منكوسًا وهو مكبل، لا شيء له من أعضائه مطلق يرد به عن وجهه في عنقه صخرة من الكبريت مثل الجبل العظيم، ويسحب في النار على وجهه، كمن أمن العذاب فهو يتلقى النعيم بقلبه وقالبه.
ولما كان مطلق التوبيخ والتقريع متكئًا، بني للمفعول قوله: {وقيل} له- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميمًا وتعليقًا للحكم به وجمع تنبيهًا على أن كثرتهم لم تغن عنهم شيئًا فقال: {للظالمين} أي الذين تركوا طريق الهدى واتبعوا الهوى فضلوا وأضلوا: {ذوقوا ما} أي جزاء ما {كنتم تكسبون} أي تعدونه فائدة وثمرة لأعمالكم وتصرفاتكم، وقيل لأهل النعيم: طيبوا نفسًا وقروا عينًا جزاء بما كنتم تعلمون، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستفهام أولًا دليلًا على حذف متعلقه ثانيًا، وما يقال للظالم ثانيًا دليلًا على ما يقال للعدل أولًا.
ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول: فهل يعذبون في الدنيا: {كذب الذين} وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم: {فأتاهم العذاب} وكان أمرهم علينا يسيرًا، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله: {من حيث} أي من جهة {لا يشعرون} أنه يأتي منها عذاب، جعل إتيانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما، فضلًا عما أخذوا به، بل لا يتوقع إلا الخير.
لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال: {فأذاقهم الله} أي الذي لا راد لأمره {الخزي} أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادوه من إخزاء الرسل بتكذبيهم {في الحياة الدنيا} أي العاجلة الدنية.
ولما كان انتظار الفرج مما يسلي، قال معلمًا أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد، وأكده إنكارهم إياه: {ولعذاب الآخرة} أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث: {أكبر} من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا، وأشدهم إخزاء، فالآية من الاحتباك: ذكر الخزي أولًا دليلًا على إرادته ثانيًا، والأكبر ثانيًا دليلًا على الكبير أولًا، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت.
فإن سيافه للطعن في الوحدانية، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب.
ولما كان من علم أن فعله يورث نكالًا كف عنه ولا يكفون ولا يتعظون قال: {لو كانوا يعلمون} أي لو كان لهم علم ما لعلموا أنه أكبر فاتعظوا وآمنوا، ولكنه لا علم لهم أصلًا، بل هم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا، لأن الجزئيات لا تنفعهم كما تنفع سائر الحيوانات، فإن الشاة ترى الذئب فتنفر منه إدراكًا لأن بينها وبينه عداوة بما خلق الله في طبعه من أكل أمثالها، وهؤلاء يرون ما حل بأمثالهم من العذاب لتكذيبهم الرسل فلا يفرون منه إلى التصديق.
ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب، فكان كأنه قيل صرفًا للقول إلى مظهر العظمة تذكيرًا بما في الأناة من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة، عطف عليه قوله مؤكدًا لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر: {ولقد ضربنا} على ما لنا من العظمة.